تبرز مشكلة عدم المساواة اليوم في العالم الرأسمالي ما بعد الصناعي، وهي مشكلة لم تنجم بفعل السياسات ولن يكون بمقدور السياسات ازالتها ابداً. غير ان تجاهل المشكلة ببساطة قد يُنتج انفجاراً شعبياً. الحكومات يجب ان تقبل اليوم وكما في اي وقت مضى بان عدم المساواة واللااستقرار هما نتيجتان حتميتان لعمليات السوق. التحديات امام الحكومات هي ان تجد طرقاً لحماية المواطنين من النتائج السلبية للرأسمالية – حتى لو احتفظت الرأسمالية بالدينامية التي تفرز الفوائد الاقتصادية والثقافية الكبيرة.
ان النقاش السياسي الأخير في الولايات المتحدة والاقطار الصناعية الديمقراطية المتقدمة الاخرى تسيطر عليه قضيتان: الاولى هي بروز عدم المساواة الاقتصادية والثانية ما حجم التدخل الحكومي المطلوب لعلاج ذلك. وكما اظهرت انتخابات الرئاسة الامريكية لعام 2012 والمعارك بشأن "الانحدار المالي"، فان التركيز الجوهري لليسار اليوم هو على زيادة الضرائب والانفاق الحكومي، وهو يهدف اساسا لتغيير طبيعة التقسيمات الطبقية المتزايدة في المجتمع، بينما التركيز الاساسي لليمين هو على خفض الضرائب والانفاق بهدف ضمان الدينامية الاقتصادية. كل جانب يقلل من مخاوف الاخر، وكل منهما يعتقد ان سياساته المفضلة هي كافية لضمان الازدهار والاستقرار الاجتماعي. غير ان كلا الجانبين على خطأ.
عدم المساواة هي في الحقيقة في تزايد في كل مكان من رأسماليات ما بعد الصناعة. ولكن بالرغم مما يعتقد به العديد من اليساريين، فان عدم المساواة تلك لم تكن نتيجة للسياسات ولا السياسات قادرة على ايقافها، لأن المشكلة هي اكثر عمقا مما يتصور البعض. عدم المساواة هي نتاج حتمي للفعالية الرأسمالية، وان زيادة المساواة في الفرص لا تؤدي الاّ لزيادة عدم المساواة ذاتها – لأن بعض الافراد والجماعات هم ببساطة اكثر قدرة من الآخرين على استغلال فرص التطور والتقدم التي توفرها الرأسمالية. ورغم ما يعتقده العديد من فريق اليمين، فان هذه مشكلة كل فرد وليس فقط اولئك الذين يعملون بكسل او منْ هم ملتزمون ايديولوجيا بالمساواة - وانها لو تُركت بلا علاج، فان بروز عدم المساواة واللااستقرار الاقتصادي سيؤديان الى تآكل النظام الاجتماعي ويخلقان انفجاراً شعبياً ضد النظام الرأسمالي برمته.
وخلال القرون القليلة الماضية، أدى انتشار الرأسمالية الى ظهور قفزة في التقدم الانساني، قادت الى كل من الزيادة السابقة غير المتخيلة في مستويات المعيشة والرعاية غير المسبوقة لكل انواع القدرات الانسانية. ان الدينامية الداخلية للرأسمالية، مع ذلك، تُنتج اللا استقرار الى جانب الفوائد، وبهذا كان تقدمها يُواجه دائما بالمقاومة. في الحقيقة ان معظم التاريخ السياسي والمؤسساتي للمجتمعات الرأسمالية، كان سجلا لمحاولات تخفيف وتطويق ذلك اللا استقرار، وان الرأسمالية والديمقراطية لم تتمكنا من التعايش ضمن انسجام نسبي الا بعد خلق دولة الرفاهية الحديثة في اواسط القرن العشرين.
في العقود الاخيرة، ادى التطور في التكنلوجيا والمالية والتجارة الدولية الى خلق موجات جديدة واشكال من اللااستقرار لمعظم الاقتصادات الرأسمالية الكبيرة، مما زاد من التباين في الحياة ومن مخاطرها ليس فقط للطبقة العاملة والدنيا وانما لمعظم افراد الطبقة الوسطى ايضا. اليمين تجاهل كثيراً هذه المشكلة، بينما سعى اليسار لأيجاد حل لها من خلال عمل الحكومة بصرف النظر عن التكاليف. اي من الاتجاهين لم يكن حيويا على المدى البعيد. السياسات الرأسمالية المعاصرة بحاجة للقبول بان عدم المساواة وعدم الاستقرار سوف يستمران ليكونا النتيجة الحتمية لعمليات السوق ولابد من حماية المواطنين من نتائجها الضارة، حتى مع استمرار فوائدها الاقتصادية والثقافية الكبيرة المرتبطة بدينامية النظام الرأسمالي ذاته.
الاتجاه السلعي والثقافة
الرأسمالية هي نظام من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية يحمل طابع الملكية الخاصة، وتبادل السلع والخدمات بين الافراد الاحرار واستخدام آلية السوق لتوجيه انتاج وتوزيع تلك السلع والخدمات. بعض عناصر النظام وُجدت في المجتمعات الانسانية منذ عصور لكن جميع تلك العناصر لم تعمل بقوة في اجزاء من اوربا والولايات المتحدة الا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وعلى مر التاريخ معظم ارباب المنازل استهلكوا معظم الاشياء التي انتجوها وانتجوا معظم الاشياء التي استهلكوها. فقط عند هذه النقطة بدأ بالفعل معظم الناس في جميع الدول بشراء معظم الاشياء التي استهلكوها مستخدمين النقود التي حصلوا عليها من بيعهم ما انتجوه من سلع.
ان النمو في الاسواق الموجّهة نحو المستهلك ومجيء ما سمي بـ "المجتمع التجاري" كانت له تأثيرات عميقة في كل نواحي الفعالية الانسانية. قبل الرأسمالية، كانت الحياة تحكمها المؤسسات التقليدية التي اخضعت خيارات ومصائر الافراد لمختلف الهياكل الجماعية والسياسية والدينية. هذه المؤسسات أبقت التغيير في ادنى حد، فمنعت الناس من انجاز المزيد من التقدم ولكنها ايضا حمتهم من العديد من تقلبات الحياة. مجيء الرأسمالية اعطى الافراد المزيد من السيطرة والمسؤولية على حياتهم الخاصة اكثر مما في اي وقت مضى – فأثبتت كونها محررة ومرعبة في آن واحد، مفسحة الطريق لكل من التقدم والتراجع.
ان التسليع commodification (تحويل الفعاليات المؤداة لغرض الاستعمال الخاص الى فعاليات مؤداة لغرض البيع في السوق الحر) سمح للناس باستخدام الوقت بطريقة فعالة، والتخصص في انتاج الحاجات التي لديهم فيها خبرة افضل وشراء الاشياء الاخرى من الناس الآخرين. اشكال جديدة من التجارة والتصنيع استخدمت تقسيم العمل لانتاج مواد منزلية بسعر منخفض وايضا وفرت نطاقا واسعا من السلع الجديدة. النتيجة، كما لاحظ المؤرخ جان دي فرايس(Jan de Vries) هي ما اطلق عليه المعاصرون "ايقاظ نهم العقول" – التوسع في الحاجات الذاتية وبالانطباعات الذاتية الجديدة عن الحاجات. هذا التوسع المستمر في الحاجات هوجم من جانب نقاد الرأسمالية من روسو حتى ماركوسMarcuse)) باعتباره يسجن الانسان في قفص الرغبات غير الطبيعية. ولكنه امتُدح من جانب المدافعين عن السوق بدءاً من فولتير فصاعداً لتوسيعه مدى الامكانية الانسانية. تطوير واشباع الحاجات العليا وفق هذه الرؤية هو جوهر الحضارة.
بما اننا نميل لإعتبار السلع اشياءاً مادية ملموسة، فنحن عادة نتجاهل المدى الذي يتم به توسيع ما يسمى بوسائل التثقيف الذاتي المتعلقة بخلق وتوزيع السلع الثقافية الجديدة المنخفضة الثمن باستمرار. تاريخ الرأسمالية هو ايضا تاريخ التوسع في الاتصالات والمعلومات والتسلية والاشياء التي يتم التفكير بها.
ومن بين اقدم السلع الحديثة كانت الكتب المطبوعة (اولها كان الانجيل)، واسعارها المتدنية ووفرتها كانت تاريخيا اكثر اهمية من انتشار محرك الاحتراق الداخلي. وكذلك ايضا انتشار ورق الصحف، الذي هيأ امكانية اصدار الصحف والمجلات. ذلك اعطى دفعاً لأسواق جديدة للمعلومات وللشركات المختصة بجمع وتوزيع الاخبار. وفي القرن الثامن عشر كانت الاخبار تأخذ شهوراً لتصل من الهند الى لندن اما اليوم تاخذ فقط لحظات. الكتب والصحف هيأت امكانية التوسع ليس فقط في وعينا ولكن ايضا في تصورنا ومقدرتنا على التعاطف مع الاخرين وتصور الحياة بطرق جديدة. الرأسمالية والتسليع بهذا تكونان سهّلتا كل من التعاطف الانساني والاشكال الجديدة من الابتكار الذاتي.
وخلال القرن الاخير، توسعت وسائل التثقيف عبر اختراع الكاسيتات المسجلة والافلام والتلفزيون ومع ظهور الانترنيت والكومبيوتر المنزلي، فان كلفة اكتساب المعرفة والثقافة انخفضت بشكل دراماتيكي.
قضايا العائلة
اذا كانت الرأسمالية فتحت المزيد من الفرص لتطوير القدرات الانسانية، ذلك لا يعني ان كل فرد كان قادراً على الاستفادة الكاملة من تلك الفرص او التقدم. العوائق الرسمية وغير الرسمية لتكافؤ الفرص، مثلا، اغلقت تاريخيا الطريق امام مختلف قطاعات الناس- مثل المرأة والجماعات الاثنية والفقراء – ليستفيدوا بشكل تام من المنافع التي وفرتها الرأسمالية. ولكن بمرور الزمن، وفي العالم الرأسمالي المتقدم، اُزيلت تلك العوائق تدريجيا لدرجة اصبحت الفرص الآن اكثر تكافؤاً من قبل. ان عدم المساواة القائمة اليوم هي نابعة ليس من عدم المساواة في الفرص المتوفرة بقدر ما هي ناجمة عن القدرات غير المتساوية في استغلال الفرص. تلك القدرات غير المتساوية بدورها انبثقت من الاختلافات الفطرية الموروثة في الانسان ومن الطرق التي تتمكن بها العوائل والجماعات من تشجيع التطور في تلك القدرات.
من الصعب تجاهل دور العائلة في تحديد قدرة الفرد وميله لاستخدام وسائل التربية التي وفرتها الرأسمالية. رب المنزل ليس فقط مكان للاستهلاك وللانجاب البايولوجي. هو ايضا الموقع الرئيسي لتطبّع وتحضّر وتعلّم الاطفال، فيه تتطور العادات التي تؤثر على مصيرهم اللاحق كاناس وكفاعلين في السوق. وبلغة الاقتصاد المعاصر، العائلة هي معمل يُصنع فيه الرأسمال البشري.
وبمرور الزمن طبعت العائلة بصماتها على نموذج الرأسمالية عبر خلق طلبات جديدة على سلع جديدة. والرأسمالية بدورها أعادت تشكيل العائلة لأن السلع الجديدة والوسائل الجديدة للانتاج قادت العائلة لتنفق وقتها على طرق جديدة. وعندما اصبحت السلع الاستهلاكية الجديدة متوفرة باسعار رخيصة خلال القرن الثامن عشر، خصصت العوائل المزيد من وقتها للفعاليات الموجهة للسوق، مع تأثيرات ايجابية على مقدرتها للاستهلاك. اجور الذكور انخفضت في البداية ولكن مجموع اجور رب المنزل من الاب والزوجة والاطفال رفعت من مستوى الاستهلاك. النمو الاقتصادي وتوسع الافق الثقافي لم يحسّنا كل مظاهر الحياة لكل الناس. ان حقيقة كون الاطفال من الطبقة العاملة يستلمون نقوداً في فترات مبكرة من حياتهم خلق حوافزاً لإهمال تعليمهم وان السلع الجديدة المتوفرة غير الصحية – مثل الخبز الابيض والسكر والتبغ والمشروبات الروحية – كانت تعني ان ارتفاع مستوى الاستهلاك لا يعني دائما تحسين في الصحة او اطالة العمر. ومع اعادة تخصيص وقت عمل المرأة من المنزل الى السوق، انخفض مستوى النظافة، مسببا زيادة في الامراض.
ان اواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر شهدا الانتشار التدريجي للوسائل الجديدة للانتاج في عموم الاقتصاد. كان هذا عصر الماكنة المتميزة بزيادة استبدال المصادر غير الطبيعية للطاقة (المحرك البخاري) بالمصادر الطبيعية للطاقة (الانسان والحيوان)، وهي العملية التي زادت الانتاجية بشكل هائل. وفي مقابل المجتمع المرتكز بشكل كبير على الزراعة والصناعات الريفية، اصبح التصنيع يحدث الآن بشكل متزايد في المصنع وحول المحركات الجديدة التي كانت كبيرة الحجم وعالية الصوت وكثيرة القذارة بما يتعذر وضعها في البيت. لذلك، انفصل العمل عن رب المنزل وهو ما اثّر في النهاية على تركيب العائلة.
في البدء، بحث مالكو المصانع الجديدة عن النساء والاطفال كعمال، طالما هم يسهل ضبطهم وتدريبهم مقارنة بالرجال. ولكن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اصبح متوسط العمال البريطانيين الرجال يتمتعون بنمو كبير ودائم في الاجور الحقيقية، واصبح تقسيم العمل يتم ضمن العائلة ذاتها. الرجال الذين اعطتهم قوتهم النسبية مزايا في التصنيع، باستمرار عملوا في المصانع لأجل اجور السوق التي كانت تكفي كثيراً لمساعدة العائلة. سوق القرن التاسع عشر مع ذلك، لم يستطع توفير السلع المتعلقة بالنظافة والادوات الصحية والوجبات الغذائية المفيدة والاشراف على الاطفال. بالنسبة للطبقة العليا يمكن تزويد تلك الخدمات عن طريق الخدم. ولكن بالنسبة لمعظم العوائل كانت معظم تلك الخدمات تُقدم من قبل الزوجات. هذا سبّب ارتفاعاً في المعيلات من ارباب المنازل و تقسيم العمل مع الجنس الاخر. المزيد من التحسن في الصحة وسنوات الحياة والتعليم الذي حصل منذ اواسط القرن التاسع عشر حتى اواسط القرن العشرين، كما يذكر دي فاريس، يمكن توضيحه باعادة التخصيص هذه لعمل الاناث من السوق الى رب المنزل ومن ثم اعادة تخصيص الطفولة من السوق الى التعليم حين ترك الاطفال ساحات العمل لأجل المدرسة.
الدينامية وفقدان الأمن
في معظم التاريخ، كان المصدر الرئيسي لفقدان أمن الانسان هو الطبيعة. في مثل هذه المجتمعات، كما لاحظ (ماركس)، كان النظام الاقتصادي موجّهاً نحو الاستقرار – والركود. المجتمعات الرأسمالية، بالمقابل، كانت موجّهة نحو الابتكار والدينامية وخلق معرفة جديدة ومنتجات جديدة واساليب جديدة للانتاج والتوزيع. كل هذا نقل مصدر القلق من الطبيعة الى الاقتصاد.
لاحظ (هيجل) في s1820 ان الرجال في المجتمع التجاري المرتكز على نموذج رب المنزل – المعيل كان الاحساس بالاستحقاق الذاتي، والاعتراف من جانب الاخرين مرتبطا بامتلاك وظيفة. هذا خلق مشكلة لان البطالة كانت خاصية متوقعة في السوق الراسمالي الديناميكي. تقسيم العمل الذي خلقه السوق كان يعني ان العديد من العمال امتلكوا مهارات ذات تخصص عالي تتناسب فقط مع مجال ضيق من الوظائف. السوق خلق تحولاً في الرغبات وطلباً متزايداً على السلع الجديدة وهو ما يعني انخفاض الطلب على السلع القديمة. الرجال الذين خصصوا حياتهم لانتاج السلع القديمة تُركوا بدون عمل وبدون تدريب يسمح لهم بالعثور على عمل جديد. مكننة الانتاج قادت ايضا لفقدان الوظائف. ومن هذه المقدمة نستطيع القول ان الابتكارية والابداع في الرأسمالية الصناعية رافقهما فقدان الامن لدى قوة العمل.
(ماركس وانجلس) وصفا في البيان الشيوعي الدينامية الرأسمالية وعدم الآمان والتوسع في القدرات الثقافية بالقول:
"البرجوازية ومن خلال استغلالها للسوق العالمي منحت سمة عالمية للانتاج والاستهلاك في كل بلد. وبالنسبة للمعارضين، انها سحبت من تحت اقدام الصناعة الارضية القومية التي تقف عليها. جميع الصناعات القومية القديمة دُمرت او انها تتحطم يوميا. انها اُزيحت من جانب الصناعات الجديدة التي اصبحت تشكل بوجودها سؤال حياة او موت لكل الامم المتحضرة، صناعات لم تعد تستخدم مواد خام محلية وانما مواد خام تُجلب من اماكن بعيدة، صناعات تُستهلك منتجاتها ليس فقط داخل البلاد وانما في كل زاوية من العالم. بدلا من الحاجات القديمة التي نشبعها بانتاج محلي، نجد الان حاجات جديدة تتطلب لاشباعها منتجات من اراضي ومناخات بعيدة".
عدم المساواة وفقدان الامن هما خاصيتان دائمتان للرأسمالية
في القرن العشرين توسع الاقتصادي جوزيف شمبر(Joseph Schumpeter) في هذه النقاط برؤيته ان الرأسمالية اتسمت بـ "التحطيم البنّاء"، فيه السلع الجديدة واشكال التوزيع والتنظيم ازاحت الاشكال القديمة. وخلافا لماركس الذي رأى ان مصدر هذه الدينامية هو في سعي رأس المال المحموم للزيادة على حساب الطبقة العاملة، ركز شمبر على دور المبدع والمبادر الذي ادخل سلعاً جديدة واكتشف اسواقاً وطرق جديدة.
ان الدينامية وعدم الامان الذين وُجدا في الرأسمالية الصناعية للقرن التاسع عشر قادتا الى خلق مؤسسات جديدة لتقليل عدم الامان، بما في ذلك الشركات ذات المسؤولية المحدودة، لغرض تقليل مخاطر المستثمر ونقابات العمال، ولزيادة مصالح العمال والمجتمعات ذات التعاون المتبادل، ولمنح القروض وتأمين تكاليف الدفن وتأمين الحياة التجارية. في العقود الوسطى من القرن العشرين واستجابة للبطالة العالية والحرمان الناجم عن الكساد الكبير(والنجاح السياسي للشيوعية والفاشية الذي أقنع العديد من الديمقراطيات بان المزيد من عدم الآمان يشكل تهديداً للديمقراطيات الرأسمالية ذاتها)، احتضنت الديمقراطيات الغربية دولة الرفاهية. مختلف الدول خلقت مختلف الاشكال من البرامج المحددة، ولكن دول الرفاهية الجديدة اتخذت سياسات مشتركة جيدة في مجال تأمينات كبار السن والبطالة ومختلف برامج مساعدة العوائل.
ان توسع دولة الرفاهية في العقود التي اعقبت الحرب العالمية الثانية حدث في وقت كانت فيه الاقتصادات الرأسمالية للغرب تنمو بسرعة. نجاح الاقتصاد الصناعي جعل بالإمكان تزويد الحكومات باموال من الارباح والاجور عبر الضرائب. ان ديموغرافية ما بعد الحرب التي هيمن عليها نموج رب المنزل-المعيل، ساعدت ايضا لأن نسب الولادات العالية نسبيا خلقت نسبة لا بأس بها من العمال النشطين قياسا بالمعتمدين. لقد توسعت فرص التعليم حينما قبلت جامعات النخب طلابا على اساس قدراتهم وانجازاتهم الاكاديمية وبدأ المزيد من الناس يحضرون مؤسسات التعليم العالي. كذلك انخفضت العوائق امام النساء والجماعات الاثنية للمشاركة التامة في المجتمع. ان النتيجة من كل ذلك كان توازنا مؤقتا خلاله مارست الدول الرأسمالية نموا اقتصاديا قويا واستخداماً عالياً ومساواة سوسيواقتصادية نسبية.
الحياة في اقتصاد ما بعد الصناعة
بالنسبة للانسانية ككل، كانت اواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين هي فترة التقدم الملحوظ نتيجة لإنتشار الرأسمالية حول العالم. التحرر الاقتصادي في الصين والهند والبرازيل واندونيسيا ودول اخرى في العالم النامي سمح لمئات الملايين من الناس للهروب من الفقر المدقع والانتقال الى الطبقة الوسطى. المستهلكون في الدول الرأسمالية الاكثر تقدما، مثل الولايات المتحدة تمتعوا في تلك الاثناء بهبوط كبير في سعر العديد من السلع بدءً من الملابس وحتى التلفزيون، وكذلك وفرة هائلة من السلع الجديدة التي غيرت نمط حياتهم.
ومن الجدير بالملاحظة ايضا ذلك التغيير في وسائل التثقيف الذاتي. وكما ذكر الاقتصادي تيلر كوين (Tyler Cowen) "ان معظم ثمار التنمية هي في عقولنا وفي اجهزة اللابتوب التي لدينا وليس في قطاعات الاقتصاد المنتجة للارباح. وبالتالي فان الكثير من قيمة الانترنيت يتم الاحساس بها على الصعيد الفردي وسوف لن تظهر ابداً في ارقام الانتاجية". العديد من الاداءات الموسيقية العظيمة في القرن العشرين ومن كل الانواع هي متوفرة على اليوتيوب مجانا. الكثير من الافلام الشهيرة يمكن مشاهدتها بعد وقت قصير من عرضها مقابل مبالغ شهرية بسيطة. وحالاً، ستصبح مكتبات الجامعات العريقة متوفرة على الاون لاين لكل العالم، وسوف يتبع ذلك فرص اخرى غير مسبوقة للتطور الفردي.
مع ذلك، كل ذلك التقدم كان معتماً بفعل السمات الثابتة للرأسمالية في عدم المساواة واللا استقرار. في عام 1973 لاحظ السوسيولوجي دانيال بيل (Daniel Bell) ان في العالم الرأسمالي المتقدم، تقود المعرفة، العلوم، التكنلوجيا التحول الى ما يسمى بـ "المجتمع ما بعد الصناعة". وكما حل التصنيع سابقا محل الزراعة كمصدر رئيسي للاستخدام، كذلك بالنسبة لقطاع الخدمات حل الآن محل التصنيع. في اقتصاد ما بعد الصناعة المرتكز على المعرفة، اعتمد انتاج السلع المصنعة على المدخلات التكنلوجية اكثر من اعتماده على مهارات العمال التي ساهمت فعلاً بانتاج تلك المنتجات. هذا يعني هبوطاً نسبياً في الحاجة الى قيمة اقتصادية لعمال المصانع المهرة وشبه المهرة- تماما كما حصل في السابق الهبوط في الحاجة وفي قيمة العمالة الزراعية. في اقتصاد كهذا، المهارات المطلوبة تضمنت المعرفة العلمية والتكنلوجية والمقدرة على التعامل مع المعلومات. ثورة المعلومات التكنلوجية التي عمت الاقتصاد في العقود الاخيرة فاقمت هذه النزعات.
احدى التأثيرات الخطيرة لصعود اقتصاد ما بعد الصناعة كانت في منزلة ودور الرجال والنساء. الميزة النسبية للرجال في ما قبل الاقتصاد الصناعي وخلاله قامت كثيراً على قوتهم الجسدية التي هي الان في ادنى حالات الطلب. اما النساء، سواء بفعل القابلية البايولوجية او الاجتماعية، امتلكن مزايا نسبية في المهارات الانسانية والذكاء العاطفي، الذي اصبح ذو اهمية متزايدة في الاقتصاد الموجّه كثيراً نحو الخدمات الانسانية منه الى انتاج الاشياء المادية. الحصة التي تشارك بها المرأة في الاقتصاد اتسعت واصبح عملها اكثر قيمة – الامر الذي يعني ان الوقت الذي يُنفق في المنزل يأتي على حساب فرص ضائعة ذات جاذبية ومردود اكثر في سوق العمل.
ان رغبة المرأة بتلقّي المزيد من التعليم والانجاز المهني ترافق مع تغيير العادات الاجتماعية في اختيار شريك الزواج. في عصر زواج معيلي الاسر، كان الرجال يعطون قيمة لعمل المرأة المنزلي اكثر من انجازاتها المهنية. لم يكن غريبا للرجال والنساء ان يتزوجوا شريكا في نفس مستوى الذكاء، ولكن المرأة مالت للزواج من رجل بمستوى تعليمي وانجاز اقتصادي اعلى. وبعد التحول من اقتصاد الصناعة الى اقتصاد الخدمات والمعلومات ما بعد الصناعة، التحقت المرأة بالرجل في الحصول على اعتراف من خلال العمل المدفوع الاجر، و يحصل كلا الشريكين اليوم على مستويات متساوية من التعليم والانجاز – العملية التي تسمى "زواج المتجانسين".
ان العولمة رسخت هذا الشكل من العوائد غير المتكافئة لرأس المال الانساني.
استمرار التصاعد في عدم المساواة
ان هذه النزعات الاجتماعية لما بعد الصناعة كان لها تأثير كبير على اللامساواة. حينما يتضاعف دخل العائلة في كل درجة من السلم الاقتصادي فان الدخل الكلي لتلك العوائل التي يتجاوز دخلها ذلك السلم يتجه ليتصاعد بطريقة اسرع من الدخول الكلية للعوائل التي تميل دخولها للانخفاض المستمر. ولكن بالنسبة لجزء كبير من ارباب المنازل الذين هم في ادنى درجات السلم الاجتماعي لن يكون هناك اي تضاعف في الاجور – لأنه نظراً لإرتفاع الاجور النسبية لعمل المرأة وانخفاض الاجور النسبية لقليلي التعلم من رجال الطبقة العاملة، فان المجموعة الاخيرة نُظر اليها باعتبارها الاقل صلاحية للزواج. ان قيود رأس المال البشري التي تجعل مثل هؤلاء الرجال اقل استخداماً ايضا تجعلهم اقل جاذبية كشركاء، وان السمات الشخصية للرجال العاطلين ستتدهور ايضا. بما انهم لا يجلبون الكثير من النقود الى المنزل فان مثل هؤلاء الرجال سيُعتبرون أقل ضرورة – لأن المرأة تستطيع الآن الاعتماد على ما تقدمه لها دولة الرفاهية من مصدر مستقل للدخل وان كان ضئيلاً.
وفي الولايات المتحدة، كان من بين اهم التطورات في العقود الاخيرة هو تصنيف اشكال الزواج لتتطابق مع مختلف الطبقات والجماعات الاثنية في المجتمع. عندما حصل ارتخاء في قانون الطلاق في الستينات، ادى ذلك الى ارتفاع نسب الطلاق في مختلف الطبقات. ولكن في الثمانينات نشأ شكل جديد: نسبة الطلاق بين الفئات الاقل تعلما استمرت في الزيادة بينما انخفضت في اوساط الفئات الاكثر تعليما. كذلك الاكثر تعليما هم الاكثر نصيب في الزواج والعكس بالعكس. ونظراً لدور العائلة كحاضن لرأس المال البشري، فان هذه الميول كان لها تأثيرات هامة على عدم المساواة. البحوث الكثيرة تبين ان الاطفال المولودين من ابوين دائمين سيتميزوا بالانضباط والثقة الذاتيين اللازمين للنجاح في الحياة، بينما الاطفال برعاية احد الابوين فقط ستكون له تأثيرات خطيرة.
كل ذلك كان يحدث خلال فترة ازدياد المساواة في فرص التعليم وزيادة التنوع في مكافئات قوة العمل اللذين زادا من اهمية رأس المال البشري. احد عناصر رأس المال البشري هي القدرة الادراكية: سرعة الذهن والمقدرة على استنتاج وتطبيق النماذج المستقاة من التجربة، والقدرة على التعامل مع التعقيدات الذهنية. عامل اخر هو الشخصية والمهارات الاجتماعية مثل الانضباط الذاتي والاستمرارية والمسؤولية. اما العنصر الثالث هو المعرفة الحقيقية. كل تلك العناصر اصبحت باستمرار حاسمة للنجاح في اقتصاد ما بعد الصناعة. الاقتصادي (Brink Lindsey) لاحظ في كتابه الاخير (رأسمالية الانسان) ان متوسط النمو السنوي في الدخل الحقيقي للناس الذين هم في الخمس الأدنى من سلم توزيع الدخل في الولايات المتحدة بين 1973 و 2001 كان فقط 0.3% مقارنة بـ 0.8% للناس في الخمس الوسط و 1.8% لمن هم في الخمس الأعلى. ويسود نفس الشكل تقريبا في العديد من الاقتصادات المتقدمة الاخرى.
ان العولمة ساهمت في ترسيخ هذا الشكل من اللامساواة في مردود رأس المال البشري. الاقتصادي( Michael Spence) ميّز بين السلع والخدمات القابلة للمتاجرة والتي يمكن استيرادها وتصديرها بسهولة، وتلك التي لا يمكن المتاجرة بها. السلع والخدمات القابلة للمتاجرة تُستورد للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة من المجتمعات الأقل تقدما حيث تكون اجور العمل منخفضة. وبما ان السلع المصنعة والخدمات الروتينية يتم تجهيزها بعقود، فان اجور غير المتعلمين وغير الماهرين في المجتمعات المتقدمة ستهبط اكثر ما لم يجد هؤلاء عملا لهم في قطاع السلع غير المتاجرة.
تأثير المالية الحديثة
ان زيادة اللامساواة ترافق مع زيادة اللا استقرار والقلق للناس الذين هم في أعلى السلم الاقتصادي. احدى العوامل التي ساهمت في هذه المشكلة هو عملية تمويل الاقتصاد وهو ما خلق في الولايات المتحدة ما سمي بـ "رأسمالية الوكالة" او"رأسمالية مدير النقود".
في اواخر s1980، كانت المالية ضرورية لكنها شكلت عنصراً محدوداً في الاقتصاد الامريكي. التجارة في سوق الاسهم الناتجة عن عمل المستثمرين الافراد الذين يضعون نقودهم في اسهم الشركات ذات المستقبل الناجح. رأس المال الاستثماري ايضا متوفر لدى بنوك الاستثمار الكبرى في وول ستريت ولدى نظرائها الاجانب. كل هذا بدأ يتغير حين اصبحت كميات كبيرة من رأس المال متوفرة للاستثمار وتُستخدم من جانب مدراء المال المتخصصين بدلاً من مالكي رأس المال انفسهم.
احد مصادر رأس المال هذا هو صناديق معاشات التقاعد. في العقود التي تلت الحرب، وحينما برزت اكبر الصناعات الامريكية كقلة احتكارية ذات منافسة محدودة واسواق متسعة في الداخل والخارج، سمحت لها ارباحها ونجاحاتها المتوقعة لتقدم لعمالها خططاً تقاعدية ذات منافع محددة. ولكن منذ السبعينات وصاعداً وحينما اصبح الاقتصاد الامريكي اكثر تنافسية، اصبحت ارباح الشركات المساهمة غير مؤكدة، وهو ما دفع الشركات وكذلك مختلف منظمات القطاع العام الى نقل المخاطرة عبر وضع معاشاتها التقاعدية في ايدي مدراء المال المهنيين الذين يُتوقع ان يصنعوا ارباحاً هامة. ان دخول التقاعد للعاملين حاليا اصبحت تعتمد ليس على ارباح مستخدميهم وانما على مصير صناديق المعاشات التقاعدية التي يديرها خبراء المال.
المصدر الآخر لرأس المال الجديد كان الجامعات والمنظمات غير الربحية التي نمت بفضل التبرعات وستنمو اكثر اعتماداً على اداءها الاستثماري. وهناك مصدر اخر لرأس المال الجديد جاء من الافراد والحكومات في العالم النامي، حيث النمو الاقتصادي السريع المترافق مع ميل حدي عالي للتوفير والرغبة في تأمين مستقبل الاستثمار، قاد الى تدفق كبيرللنقود الى النظام المالي الامريكي.
ان بنوك وول ستريت الاستثمارية التقليدية، متحفزةً بهذه الفرص الجديدة حولت نفسها الى شركات تجارية عامة – اي انها بدأت تستثمر ليس فقط باموالها الخاصة وانما ايضا بنقود الناس الاخرين – وربطت مكافئات شركائها ومستخدميها بالارباح السنوية. كل هذا خلق نظاما ماليا شديد التنافسية يهيمن عليه مدراء استثمار يعملون بمخزون هائل من رأس المال وتعتمد رواتبهم على مقدرتهم في التفوق على اقرانهم. هيكل الحوافز في هذه البيئة قاد مدراء الاستثمار الى محاولة تعظيم المردودات القصيرة الاجل وهو ما خلق ضغطاً على المدراء التنفيذيين. ان تقليص الافق الزمني خلق ميلاً لرفع الارباح العاجلة على حساب الاستثمارات الطويلة الاجل سواء في مجال البحوث والتطوير ام في تحسين مهارات قوة العمل في الشركة. وبالنسبة لكل المدراء والمستخدمين كانت النتيجة تأرجحاً دائماً زاد من احتمال فقدان الوظائف وعدم الاستقرار الاقتصادي.
تأثير الاداء المختلف للجماعات
ليس العائلة وحدها كمؤسسة اجتماعية لها تأثير كبير على تنمية رأس المال البشري ونجاحه في سوق العمل وانما ايضا هناك التجمعات الطائفية مثل الجماعات الدينية والعرقية والاثنية. السوسيولوجي (ماكس ويبر) في كتابه "الاخلاق البروتستانتية وروح الراسمالية عام 1905" لاحظ ان المناطق المتنوعة دينيا فيها يميل البروتستانت ليعملوا اقتصاديا افضل من الكاثوليك، والكلفانيين افضل من اللوثريين. طرح ويبر تفسيراً ثقافياً لهذا الاختلاف معتمداً على مختلف الميول السايكولوجية الناتجة عن مختلف العقائد. وفي عام 1927 وضع شمبتر(Schumpeter) مقالته الشهيرة بعنوان "الطبقات الاجتماعية في البيئة المتجانسة اثنيا" اكد فيها حين يكون هناك مزيج اثني فان مستويات الانجاز تتغير تبعا للاثنية وليس فقط تبعا للطبقة.
ان التفسيرات التي طُرحت للاشكال اعلاه هي اقل اهمية من حقيقة ان اداء الجماعات المختلفة هو سمة ثابتة في تاريخ الرأسمالية، وان الاختلافات في اداء تلك الجماعات لازال مستمراً. وفي امريكا المعاصرة، مثلا، الاسيويون (المنحدرون من جزر الباسفيكي) يميلون للتفوق في الاداء على البيض غير اللاتينيين، الذين بدورهم يتفوقون على اللاتينيين، وهؤلاء يتفوقون على الامريكيين الافارقة. هذا يصح سواء نظرنا الى الانجاز التعليمي او لنموذج العائلة او لحجم الدخل المستلم.
وفي دول اوربا الغربية الشمالية التي فيها مستوى المساواة أعلى مما في الولايات المتحدة نرى هناك تجانسا اثنيا سكانيا عاليا. ومع تزايد موجات الهجرة الاخيرة ذلك جعل العديد من مجتمعات ما بعد الصناعة المتقدمة اقل تجانساً عرقياً، وهي بدت ايضا منقسمة وعلى نحو متزايد على طول خطوط التجمعات، حيث ان بعض جماعات المهاجرين تبدي انماطاً مفضلة اكثر مما يبديه السكان المجودون قبلهم بينما الجماعات الاخرى تعمل بشكل سيئ. وفي المملكة المتحدة، اطفال الصينيين والمهاجرين الهنود يميلون ليعملوا افضل من السكان الاصليين، بينما الباكستانيين والكاربيين السود يعملون بشكل سيئ. في فرنسا يعمل احفاد الفيتناميين افضل من اولئك المنحدرين من اصول شمال افريقية. في اسرائيل يعمل اطفال المهاجرين الروس افضل مما يقوم به المهاجرون من اثيوبيا، وفي كندا يعتبر اداء اطفال الصينيين والهنود هو الافضل اما الذين ينحدرون من اصول كاريبية ومن امريكا اللاتينية هم الاسوأ. معظم هذه الاختلافات في الاداء يمكن توضيحها عبر اختلاف الطبقة والخلفية التعليمية لجماعات المهاجرين في بلدانهم الاصلية. ولكن بسبب ان الجاليات ذاتها تعمل كحامل وحاضن لرأس المال البشري، فان الانماط ذاتها ستستمر عبر الزمان والمكان.
التعليم ليس حلاً سحرياً
ان الاعتراف المتزايد بعدم المساواة الاقتصادية والتباينات الاجتماعية في مجتمع ما بعد الصناعة قاد الى مناقشة ما يجب القيام به، وفي السياق الامريكي كان الجواب ببساطة هو التعليم.
احد الحلول ضمن هذا المنطق يركز على التعليم في الكليات. هناك فجوة متصاعدة في فرص الحياة بين من يكمل الدراسة في الكلية وبين من يتخلف عنها، ولذا يتوجب على اكبر عدد من الناس الذهاب الى الكليات. ولسوء الحظ حتى النسبة العالية من الامريكيين الذين يحضرون الكليات لا يعني انهم يتعلمون الكثير. فهناك العديد منهم يستلم شهادة جامعية تعكس مستوى اقل مما يعنيه المستوى الجامعي، والعديد ايضا يتركون الكلية دون اكمال الدراسة.
ان الاختلاف الرئيسي في الانجاز التعليمي يحدث قبل مستوى الكلية اي في نسبة اكمال الثانوية، وان اكبر الاختلافات في الاداء(عبر الطبقة والعرق) تظهر في اوقات مبكرة، في مرحلة الابتدائية. ولذا فان الاتجاه الثاني من النقاش يركز على المدرسة الابتدائية والمتوسطة. العلاج هنا هو بتزويد المدارس بمزيد من النقود واختبار التلاميذ ومنح الاباء مزيد من الخيارات وتحسين اداء المعلم. مع ان هذه الاجراءات ربما هي مرغوبة لاسباب اخرى لكن اي منها لم يزيل الفجوة بين الطلاب والجماعات الاجتماعية لأن التعليم المدرسي الرسمي ذاته يلعب دوراً ثانويا في خلق فجوات الانجاز الدائمة.
لكل الاسباب السابقة، فان عدم المساواة في الدول الرأسمالية ستبقى حتمية و ستستمر في النمو وأحد اهم الاستنتاجات القوية لإستبيان اجتماعي علمي معاصر هو ان مع تزايد الفجوة بين العوائل ذات الدخل المرتفع والعوائل منخفضة الدخل فان فجوة انجاز العمل بين اطفال تلك العوائل تزايدت ايضا وبحجم اكبر.
ما العمل المطلوب اذاً؟
ان الرأسمالية مستمرة حاليا في توفير منافع لابأس بها، فهناك المزيد من فرص التثقيف والتطوير الذاتي. غير ان تلك المنافع ترافقت مع زيادة في عدم المساواة وعدم الآمان. وكما ذكر (ماركس وانجلس) بان ما يميز الرأسمالية عن الانظمة الاقتصادية والاجتماعية الاخرى هو تطويرها الجوهري المستمر للانتاج، والاضطراب المستمر في كل المناحي الاجتماعية، وحالة الاثارة وعدم التأكد الدائمين.
اذا كانت ثمار الرأسمالية مؤقتة فان الشرور الملازمة لها أبدية، والسؤال هو كيف نحتفظ بالمنافع المؤقتة للرأسمالية وفي نفس الوقت نجد الوسيلة لمنع وتصحيح شرورها الدائمة؟
الحل الاول:احدى الحلول الممكنة لمشكلة عدم المساواة هي إعادة توزيع الدخل من قمة الاقتصاد الى اسفله. هذا الحل امامه عقبتان الاولى هي ان القوى التي تقود الى عدم المساواة تعيد فرض نفسها من جديد، مطالبة بالمزيد والمزيد من اعادة التوزيع الظالمة.
اما العقبة الثانية هي ان إعادة التوزيع تخلق استياءاً كبيراً يعوق دوافع النمو الاقتصادي. ربما درجة من إعادة التوزيع (عبر الضرائب) ممكنة وضرورية لكن مقدار صلاحيتها سيكون محل خلاف، ومهما كان حجم العملية فهي سوف لن تحل المشكلة ابداً.
العلاج الثاني: استخدام سياسة الحكومة لغلق الفجوة بين الافراد والجماعات عبر تقديم تعاملات مفضلة لضعيفي الاداء، وهو علاج ربما يكون اسوأ من المرض ذاته. ان المكافئات لأصناف معينة من المواطنين سيخلق حتما احساساً بعدم العدالة بين بقية السكان. الأخطر من ذلك هو كلفة ذلك الخيار على الفاعلية الاقتصادية، كونه يعزز حصول الافراد الأقل كفاءة على الوظائف التي لا يمكنهم الحصول عليها باستحقاقهم الخاص.
العلاج الثالث: يكمن في التشجيع الدائم للابتكارات الاقتصادية التي تنعكس ثمارها على كل الناس. الانترنت وثورة الحاسوب يمكن مقارنتهما بمجيء الطاقة الكهربائية التي ادخلت معها نطاقاً واسعاً من الفعاليات الاخرى التي بدورها نقلت المجتمع كلياً بطرق لا يمكن التنبؤ بها. ومن بين المكاسب الاخرى هو ان الانترنت زاد بشكل جذري من سرعة المعرفة التي هي العامل الاساسي في نمو الاقتصاد الراسمالي منذ القرن الثامن عشر. مع ذلك، حتى الابتكارات المستمرة والنمو النشط سوف لن يزيل او يقلل التفاوت السوسيواقتصادي واللا استقرار لأن اختلافات الفرد والعائلة و الجماعة ستبقى تؤثر على تطور راس المال الانساني والانجاز المهني.
لكي تستمر الرأسمالية في شرعيتها للناس بمختلف شرائحهم يجب الإبقاء على برامج الدعم الحكومي وتخفيف حدة الفشل في السوق والعمل على الحفاظ على المساواة في الفرص وتنشيطها. مثل هذه البرامج هي موجودة سلفاً في معظم الدول المتقدمة، واليمين يحتاج للقبول بانه يخدم اهدافاً لا غنى عنها ولابد من الحفاظ عليها – ان الانفاق الحكومي الكبير على الرفاهية الاجتماعية هو الاستجابة الملائمة للخصائص الإشكالية المتأصلة في الرأسمالية.
في الولايات المتحدة، مثلا، المساعدات الاجتماعية وإعانات البطالة وقسائم الطعام والرعاية الصحية تقدم الراحة لمن هم اقل سعادة في الاقتصاد، ومن غير الواقعي ان يتضائل الطلب الشعبي على مثل تلك البرامج. من غير المنطقي ايضا ان تُقطع تلك المساعدات في الوقت الذي تتصاعد فيه عدم المساواة. المصلحة الذاتية للمتنورين المستفيدين من الحياة في دينامية المجتمع الرأسمالي ستدفعهم مصلحتهم للقبول بجزء من مكاسب السوق مقابل الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. برامج الحكومة تحتاج الى اصلاحات هيكلية ولكن يجب على جناح اليمين القبول بان دولة الرفاهية السخية يجب ان تبقى ولأسباب شديدة الوضوح.
اما بالنسبة لليسار فهو يحتاج الى ادراك حقيقة ان المحاولات العنيفة لازالة عدم المساواة ستكون مكلفة وغير مجدية. نجاح المحاولات السابقة بتخفيف عدم المساواة سواء عن طريق توسيع فرص التعليم او الحد من مظاهر التمييز يعني هناك القليل حاليا من القدرات الانسانية غير المستغلة في المجتمع الرأسمالي، واي إجراءات جديدة لترسيخ المساواة سوف لن تعطي ثماراً اكثر من السابق وان حصلت ستكون بكلفة اكبر.
ان التحدي امام الحكومات الرأسمالية هو كيف تحافظ على الدينامية الاقتصادية التي توفر منافع متزايدة للجميع بينما تنجح في نفس الوقت بدفع مستحقات برامج الرفاهية الاجتماعية المطلوبة لتصبح حياة المواطنين ممكنة في ظل زيادة عدم المساواة. مختلف الدول تواجه هذا التحدي بمختلف الطرق طالما هي تختلف في افضلياتها وتقاليدها وحجمها وفي خصائصها الديموغرافية والاقتصادية. ولكن نقطة الانطلاق المفيدة هي رفض كلا السياستين سياسة الدعم وسياسة الاكراه وتبنّي رؤية واضحة لما تستلزمه الرأسمالية حقاً، لا رؤية التمجيد من انصارها او التحقير من منتقديها.