بين وقف إطلاق النار واستمرار المقاومة
3/ 1/ 2002
شكّل خطاب رئيس السلطة الفلسطينية يوم عيد الفطر مستجداً هاماً على صعيد الواقع الفلسطيني ، وألقى بظلال ثقيلة على العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية داخل الأرض المحتلة، بما أفرز العديد من التطورات اللاحقة على مختلف الأصعدة.
وقد تركز مضمون الخطاب حول التأكيد على توجه السلطة بوقف إطلاق النار واتخاذ كافة الإجراءات العقابية ضد من يخرق قرارها، والعمل على تكريس سلطة القرار بيدها وتكرارها الالتزام بمحاربة الإرهاب واستمرارها في عملية التسوية السياسية.
خلفيات ودوافع قرار وقف إطلاق النار :
وقد جاء هذا القرار في ضوء مجموعة من التطورات نجملها فيما يلي:-
1- تضييق الحصار على رئيس السلطة في رام الله، وإخضاعه للإقامة الجبرية فيها، إثر العمليات البطولية لكتائب القسام في القدس وحيفا، وعمانوئيل، وذلك في سياق الرؤية الصهيونية التي تقوم على الضغط على عرفات ليقوم بما يملى عليه صهيونياً وأمريكياً حسب التزاماته في اتفاق أوسلو وتوابعه.
2- تصعيد الحرب الإعلامية والنفسية الصهيونية ضد شخص رئيس السلطة الفلسطينية عبر الادعاءات أنه أصبح خارج إطار اللعبة السياسية والتلويح ببدائل فلسطينية أخرى، وتهديد جهات يمينية داخل حكومة "شارون" بطرد عرفات وإعادته إلى تونس أو حتى قتله.
3- التلويح الأمريكي بنزع الشرعية عن عرفات والسلطة في سياق امتداد الحرب الأمريكية ضد ما يسمى بـ "الإرهاب" ، وصدور تصريحات رسمية لبعض المسئولين في الإدارة الأمريكية تؤكد أن عرفات غير مناسب لعملية التسوية وللمرحلة الحالية.
4- تراجع الموقف العربي الرسمي والشعبي بعد أحداث 11 سبتمبر إزاء الانتفاضة ودعم المقاومة بل وممارسة بعض الأنظمة العربية ضغوط على السلطة لوقفها.
5- وجود تيار قوي وفعال في السلطة ضد استخدام السلاح وعدم جدوى الانتفاضة ولو أدى ذلك لإراقة الدم الفلسطيني .
6- الضغوط المالية على السلطة من الغرب ومن دولة الكيان الصهيوني ( الضرائب وغيرها ) وقرب انتهاء فترة الدعم العربي المالي.
رغم أن مضامين الخطاب الذي ألقاه رئيس السلطة لا يحمل تغييراً جوهرياً بل هو استمرار لدور السلطة ووظيفتها منذ أوسلو ولم تتخل عنه السلطة خلال الانتفاضة بل كرسته في محطات عديدة منها موافقتها على تقرير ميتشل وتفاهمات تينيت، وإعلانها المتكرر لوقف إطلاق النار من جانب واحد وتكرار التزامها بأوسلو ونهج التسوية، إلا أنه لمحاولة فهم أسباب لجوء رئيس السلطة الفلسطينية إلى هذا القرار، لا بد من تحديد أهم العوامل الداخلية والذاتية التي تحدد مواقف وسلوك السلطة الفلسطينية وأهمها:-
1- اختزال القضية الفلسطينية في السلطة الفلسطينية، واختزال هذه الأخيرة بشخص عرفات، وجعل القضية الفلسطينية رهينة بمصالح ووجود السلطة ورئيسها.
2- ارتباط مصالح أغلبية قيادات السلطة الفلسطينية السياسيه والأمنية بالعلاقة مع الكيان الصهيوني واستمرار مشروع التسوية.
3- يعتبر العامل الخارجي الدولي وبالتحديد الأمريكي عاملاً حاسماً من حيث وجود السلطة واستمرارها وفر لها شرعية الوجود والاستمرار، مما أدى إلى تكريس الارتباط العضوي للسلطة بالأجندة الأمريكية في المنطقة و العالم، وكذلك أجندة بعض الأنظمة العربية ذات الارتباط بالمصالح الأمريكية في المنطقة، والتي تملك التأثير الأكبر على مواقف السلطة السياسية.
4- مشروع أوسلو قائم على فلسفة صهيونية أمريكية تعتبر السلطة أداة أمنية سياسية، تحفظ الأمن للاحتلال الصهيوني، وفي ذات الوقت تخرج الاحتلال من المأزق الأخلاقي والدولي الذي تفرضه طبيعته الاستيطانية والقمعية، وفي هذا السياق تقوم السلطة بأدوارها الوظيفية في محاربة المقاومة ووقف برنامجها حسب الاجندة الصهيونية الأمريكية .
تداعيات وآثار خطاب عرفات:
كان لقرار السلطة بوقف إطلاق النار المتكرر والذي بلغ ذروته التعبير عنه بخطاب عرفات العديد من الآثار على الساحة الفلسطينية والعربية حيث أدخلت السلطة الشارع السياسي الفلسطيني في حالة استقطاب حادة، مما رفع من وتيرة الاحتقان بين السلطة وأجهزتها الأمنية من جهة، والعديد من حركات المقاومة وجماهير شعبنا من جهة أخرى، إذ إن السلطة وقيادتها مدفوعة بحجم الضغوط التي تمارس عليها، ورعب التغييب عن الساحة السياسية، والخشية من تهديد دورها كسلطة لها الحق في فرض خياراتها ونهجها السياسي، في حين أن حركات المقاومة معنية باستمرار برنامج المقاومة ضد الاحتلال باعتباره حقاً طبيعياً لها ولشعبنا في مواجهة الإرهاب الصهيوني ، هذه الحالة التي خلفتها العوامل الذاتية لدى السلطة والتي تجعل منها الطرف الأضعف القابل لتلقي الاملاءات والضغوط وهي بالتالي لا تتورع عن اقتراف أي خطيئة في سبيل ضمان بقائها واستمرارها مهما كلف ذلك من ثمن على صعيد الوحدة الوطنية وحقوق شعبنا المشروعة.
فقد اتخذت السلطة العديد من الإجراءات لمحاربة حركات المقاومة ابتداءً من إخراج بعضها عن القانون ثم حملات الاعتقالات وإغلاق المؤسسات الخيرية الخدمية والسياسية وانتهاءً بإطلاق النار ا لمتعمد بهدف القتل ضد عناصر المقاومة وجماهير شعبنا في جباليا وغزة وغيرها، رداً على احتجاج الجماهير على الإجراءات التعسفية التي اتخذتها السلطة انصياعاً للاملاءات الصهيونية والأمريكية، مما أ وقع الشارع الفلسطيني على شفير حرب أهلية لا يمكن التكهن بمداها.
إجراءات السلطة هذه أدت إلى تعرض وحدة شعبنا لخطر جسيم كما أعطت العدو المزيد من المبررات لقتل أبناء شعبنا ما دامت سلطته لا تتورع عن القيام بذلك ، حيث قتلت نيران الشرطة ما لا يقل عن عشرة إرضاءً لأمريكا وشارون، فلم لا يقوم الاحتلال بذلك رغم أنه لا يحتاج إلى ذرائع ومبررات.
كما أكدت قرارات السلطة الرؤية الصهيونية الأمريكية التي تصم جهاد شعبنا بالإرهاب، بل إن رموزاً من السلطة أخذوا يتساوقون مع هذه المصطلحات بما يعرض حق شعبنا في المقاومة ومجمل حقوقه للخطر
ما تقدم من تداعيات أدى إلى صرف الأنظار العربية الرسمية والشعبية عن دعم الانتفاضة إلى الخشية على ا لوحدة الوطنية الفلسطينية وانصرف الاهتمام الرسمي العربي إلى توفير غطاء سياسي عربي ودولي للسلطة ورئيسها والمساهمة في تقوية موقفه عربيا وفلسطينياً من خلال تأييد القرارات التي اتخذتها السلطة في زيادة خفض السقف العربي وصرف اهتمام الدول العربية عن دعم الشعب الفلسطيني إلى تثبيت واقع السلطة ودعم برنامجها خوفاً من التداعيات السلبية لانهيارها وأهمها تحول عبء القضية الفلسطينية مرة أخرى إلى الأنظمة العربية.
كما أسهمت قرارات وإجراءات السلطة في زيادة الضغوط على المقاومة وبرنامجها وهياكلها في الداخل والخارج، ولعل من مظاهر ذلك قرار الاتحاد الأوروبي مطالبة السلطة بتفكيك (حماس) والجهاد بما يمثل تحولاً في اتجاه تبني الموقف الأمريكي المعادي لشعبنا وأمتنا بل إن السلطة تعمل على تحريض الأطراف الدولية للضغط على دول عربية لتمارس ضغوطاً على قيادة حركات المقاومة في الخارج باعتبارها أكثر تطرفاً حسب رؤية السلطة.
هذه الوقائع التي أوجدتها السلطة بحكم تركيبتها ونهجها السياسي وطريقتها في إدارة الأزمات، أدت إلى حالة ارتأت فيها حركات المقاومة وعلى رأسها (حماس) تهدئة وتيرة عملها المقاوم، ووقف بعض صورها مؤقتاً وبصورة مشروطة، وذلك لتنفيس الاحتقان الداخلي الفلسطيني، والمحافظة على وحدة الشارع ضد الاحتلال الصهيوني، إلى حين توفر الظروف الملائمة لاستئناف المقاومة.
ما جرى ويجري أثار مخاوف قديمة جديدة لدى السلطة الفلسطينية التي ترى في حركات المقاومة والدعم الشعبي الكبير الذي تتمتع به عائقاً أمام برنامج التسوية السياسية ففي أحداث جباليا وغزة وخانيونس، تصدت الجماهير لإجراءات السلطة بصورة قوية رغم قمع السلطة العنيف ، وهو ما يؤكد استمرار تمسك الشعب الفلسطيني بالمقاومة وبرنامجها، وعجز السلطة الفلسطينية عن فرض برنامج التسوية.
ولذلك اتخذت السلطة الفلسطينية إجراءات أمينة وقانونية وسياسية وإعلامية لضرب المقاومة والحركات التي تمثلها بتقويض المؤسسات والهياكل التي تدعم هذا البرنامج وتوفر له إمكانية الاستمرار، وتنفيذ سياسة تقوم على تكتيك (سحب الحساسية التدريجي) إزاء إجراءاتها وذلك بهدف العودة إلى سيناريو ما حدث عام 1996م، إذ تقوم السلطة بزيادة جرعة الإجراءات بصورة تدريجية لا تستدعي ردود فعل جماهيرية وفصائلية حادة وشاملة، إذ تنشط أجهزتها في فتح ملفات أمنية لبعض الأفراد واستدعاء بعضهم لاستجواب لمدة ساعات ثم يطلق سراحه، ويتوقع أن تزداد الوتيرة إلى إجراء تحقيقات عنيفة بالتنسيق مع المخابرات الصهيونية ، وربما تطورت الأمور إلى ما هو أسوأ كما حدث في التعاون مع الاحتلال باغتيال الشهيد الشريف والأخوين عوض الله والشهيد كمال كحيل، وتسليم خلية صوريف وغيرها من الجرائم التي مارستها السلطة في الماضي، وذلك بهدف إثبات التزامها بما وقعت عليه، واتساقاً مع وظيفتها التي أنيطت بها صهيونياً ودولياً، إذ أصبح هذا العدو حجر الزاوية في إعادة المشروعية إليها، والمحافظة على مصالح المستفيدين من وجودها.
إلا أن المعطيات التي تكرست من خلال انتفاضة الأقصى ومشاركة الكثير من التنظيمات الفلسطينية في برنامج المقاومة إضافة إلى ضعف السلطة الفلسطينية وعدم وجود أفق للحل السياسي مع حكومة "شارون" يجعل من الصعوبة بمكان العودة إلى أجواء عام 1996م، خصوصاً وأن حركة (حماس) مصممة على عدم السماح للسلطة الفلسطينية للقيام بذلك متسلحة بموقف شعبي فلسطيني رافض لهذه السياسات.
وفي خط موازٍ تسعى السلطة ومن خلال بوابة توفير الأمن للاحتلال للعودة إلى عملية التسوية السياسية، وبث الروح فيها، رغم توقفها عملياً وسقوط خيارها شعبيا، وقد بدأت نذر ذلك من خلال العودة إلى طرح مبادرات فارغة المضمون، كنوع من ملء الفراغ وتهيئة جماهير شعبنا إلى إدخال حقوقنا ومصير شعبنا من جديد في دوامة التسوية وحلقتها المفرغة، رغم ثبوت فشلها واقعيا وفكرياً.
وفي أجواء الهدوء النسبي الميداني ظهرت بعض التحركات السياسية الخجولة متمثلة في ورقة (بيريز – قريع) التي دعت لإقامة دولة فلسطينية على 40% من مساحة الضفة وخوض مفاوضات فلسطينية – صهيونية حول قضايا الحل النهائي.
وعلى الرغم من عدم وضوح موقف حكومة "شارون" من هذه الوثيقة – إن لم نقل رفض "شارون" لها – فإن السلطة الفلسطينية أظهرت مرونة كبيرة في التعامل معها على الرغم من أن سقفها أقل من سقف مفاوضات كامب ديفيد2. ومع ذلك فإن مستقبل التسوية لا يزال مسدود الأفق، ولا يتوقع حدوث اختراقات فيه. فحتى وإن استؤنفت المفاوضات للحل النهائي، وهو أمر مستبعد في المرحلة الحالية، فالاتصالات السياسية القائمة حالياً لا تعدو كونها إجراءات سياسية تكتيكية، تمثل غطاءً شكليا للتنسيق الأمني بين الطرفين وكل ما يدور حالياً إنما هو تمهيد وتهيئة للأجواء لاحتمال استئناف المفاوضات بيد أن المطلوب من الطرفين تنفيذه للوصول إلى تلك الطاولة ربما حال دون الوصول إليها، ولو افترضنا حدوث ذلك فإن المعطيات على الأرض سواء لدى الشارع الفلسطيني أم الصهيوني وكذلك التوجهات السياسية لحكومة "شارون" لن تهيئ الظروف بأي حال للوصول إلى اتفاق سلام بين السلطة والكيان الصهيوني.
المقاومة مستمرة
وفي ظل تصاعد حركات المقاومة في الشارع الفلسطيني، الذي يدعم بقوة استمرار المقاومة بكافة أشكالها، والذي يمثل أرضية خصبة لاستمرار هذا البرنامج وحمايته من تغوّل السلطة وقمعها، مقابل تراجع تأثير السلطة وتراجع شعبيتها إلى أقل مستوى منذ أوسلو، إضافة إلى غياب برنامج حزب العمل واليسار الصهيوني خاصة في ظل انحصار الدور الأمريكي في البعد الأمني الذي يخدم الاحتلال وعزوفه النسبي عن أداء دور سياسي فاعل، كل ذلك يشير إلى أن برنامج التسوية سيبقى يراوح مكانه ولن يحظى باختراقات حقيقية، وسيبقى برنامج المقاومة قادراً على الاستمرار مستندا إلى مشروعيته ومساندة جماهيرية من شعبنا وشعوب أمتنا