هل يستدرج العلم واشنطن إلى متاهات معاكسة؟
المعضلة هنا تتجسد في أن العلم والتقدم التقني هما بدرجة من الجاذبية أن حكومة قوية ترنو إلى المحافظة على سطوتها وعلى يدها العليا، كالحكومة الأميركية، أنها لا تتمكن من ضبط النفس عندما تتاح مثل هذه "التسهيلات" العلمية المبتكرة، خاصة عندما تخدم أهدافًا استراتيجية جاهزة ومهمة وبعيدة المدى.
لطالما أعيتني النتائج العرضية، غير المحسوبة، للتقدم العلمي والمنجز التقني، الأمر الذي يذكرني بتلك الأسطورة البابلية التي تحكي قصة إمبراطور كان يحلم بالطيران، فارتفع محلقًا على ظهر طائر عملاق، إلا أنه، وهو في الأعالي، لم يكن يفقه كيف يعود إلى الأرض!
هذه حال تنطبق حتى على المستوى الفردي: ففي أعوام طفولتنا كنا نتعلم القراءة والكتابة، الحساب والرسم يدويًّا، بأصابعنا الذكية حتى اكتسبت هذه الأصابع قوة الإبداع. لم تكن هناك طباعة إلكترونية ولا حواسيب ولا تجهيزات الرسم بالحاسوب، لذا مكنتنا تلك الطرق "البدائية" غير المطورة، بدون مساعدة المكننة، من الحفاظ على مواهبنا وعلى قوتنا الفردية الكامنة في المسافة القصيرة والسرعة الضوئية بين العقل والأيادي المبدعة.
أما على المستوى الجماعي والإنساني عامة، فقد ارتفعت الأصوات عالية ضد التقدم العلمي غير المحسوب النتائج، خاصة بعد اختراع القنابل الذرية وصناعة أسلحة الدمار الشامل، وبعد أن أفرز التقدم العسكري والمختبرات السرية من أنواع الجراثيم والفيروسات ما يعجز الطب الحديث عن مقاومتها ومعالجة أضرارها.
وللمرء أن يطور جدلًا من هذا النوع اليوم تأسيسًا على ما طفى على سطح "أخبار الساعة" من أنباء تفيد باستخدام "وكالة الأمن القومي" NSA الأميركية آخر معطيات التقدم التقني والمعلوماتي لخدمة أعمالها في التحسس والتجسس على الجميع، بمن فيهم المواطنون الأميركان، ناهيك عن مواطني الدول المنافسة والعدوة، درجة اكتشاف الأوروبيين المتأخر بأنهم، رغم تحالفهم القديم مع واشنطن، إنما كانوا طوال سنين ضحية للتجسس الأميركي الدقيق.
والحق، فإن هذه الحال هي التي حدت بأشخاص من نوع أسانج وسنودن، من بين آخرين، إلى إماطة اللثام عن أسرار استخبارية خطيرة للغاية، قد تهدد الأمن القومي الأميركي. المعضلة هنا تتجسد في أن العلم والتقدم التقني هما بدرجة من الجاذبية أن حكومة قوية ترنو إلى المحافظة على سطوتها وعلى يدها العليا، كالحكومة الأميركية، أنها لا تتمكن من ضبط النفس عندما تتاح مثل هذه "التسهيلات" العلمية المبتكرة، خاصة عندما تخدم أهدافًا استراتيجية جاهزة ومهمة وبعيدة المدى، درجة تخلي البنتاجون وسواه من الوكالات الأميركية عن سباق التسلح التقليدي لصالح نوع جديد من التسلح كالطائرات بدون طيار وكالمعلومات المنتقاة من شبكات الاتصال الاجتماعي والبيانات المستلة من شبكات المعلومات الدولية.
ولكن السؤال المهم يبقى قائمًا وعصيًّا على الإجابة الواضحة والنهائية: هل ستستدرج التقنيات العلمية الحديثة الولايات المتحدة الأميركية إلى أفعال تعد غير قانونية على المستويين الداخلي والدولي؟ بمعنى هل سيتمكن جهابذة الأجهزة المهمة المذكورة في أعلاه من الامتناع عن استخدام المعطيات الأكثر حداثة للتقنيات العلمية تأسيسًا على ضوابط أخلاقية أو روادع قانونية من نوع "الخصوصية" وعدم الإخلال بحريات الأفراد والجماعات، من بين سواها من المحددات والكوابح؟
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
_________________
نحن انصار حر كة جعفر الخابوري الثقافيه