واشنطن... واستئناف استراتيجية التقويض
من أين جاءت هذه الصحوة الدموية لما يسمى تنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين بعد هدوء شهدته الساحة في الفترة الأخيرة؟ هناك تفسيرات تربط بين الفراغ الأمني الذي اتسعت دائرته وبين الانسحاب الأميركي المتدحرج في المدن والمناطق العراقية. وهناك من يربط بين نمو شوكة «القاعدة» وتراجع قوة «الصحوات» التي كان لها الفضل في محاصرته وتطويقه في ثلاث محافظات عراقية.
عملية الربط قد تكون صحيحة، ولكنها ليست كافية لتوضيح مخاطر خطاب أيديولوجي لا وظيفة له سوى تدمير المنطقة وإضعافها بشرياً امام الاحتلال الأميركي والتوسع الاستيطاني. فالخطاب ينمو ويتراجع بحسب الظروف أو تلك العوامل المساعدة التي تعطي ذريعة للقتل العشوائي وانتهاك الحرمات والمقدسات.
المسألة تبدو متداخلة وهي تتشعب عبر مسارات متلازمة ولا يمكن فصلها في مجموعها عن سياسة أميركية لعبت الدور الأساس في استنهاض قوى لا مهمة لها سوى قتل الأبرياء والاعتداء على الناس في شوارعهم ومنازلهم بذريعة أن هؤلاء يشكلون حواجز بشرية تمنع الوصول إلى القواعد العسكرية ومهابط الطيران وخطوط الإمداد.
التساهل الأميركي مع هذه المجموعات المسلحة شكل خطوة غير ذكية أعطت فرصة لنمو خطاب تحريضي يهدد الناس ويشتت الأهداف ويطيح بالأولويات ويعطل على المقاومة أن تستكمل مشروعها في التصدي السياسي لتلك الهجمة. هذا التساهل ليس بحاجة إلى أدلة دامغة لأنه يستند إلى وقائع ميدانية حصلت في أفغانستان والعراق وباكستان، وهي تشير في مجموعها إلى تحويل المواجهة من معركة ضد الاحتلال إلى معارك ضد الطوائف والمذاهب والأقليات. وهذا الانحراف في تحديد الأولويات والأهداف أسعف القوات الأميركية وساهم في التخفيف من الهجمات على مواقعها وخطوطها ودورياتها وأعطى مساحة زمنية لها لتحصين جيوبها وقواعدها.
التساهل الأميركي ليس تهمة جاهزة بل سياسة مبرمجة اعتمدتها واشنطن في عهد «تيار المحافظين الجدد» لأنها تزعزع الأولويات وتنشر الفوضى وتدفع القوى نحو الاقتتال المذهبي-الطائفي وتؤجل المواجهة مع الاحتلال. وهذا ما حصل خلال الفترة الفاصلة بين العام 2003 والعام 2006 إذ شهدت بلاد الرافدين معارك دموية أدت إلى تقسيم العراق إلى كانتونات وجيوب طائفية ودويلات مذهبية. وبعد أن انتهت من مهمة التفكيك الأهلي لجأت قوات الاحتلال إلى تطوير أدواتها من خلال تكوين قوى محلية وتسليحها وتمويلها للتصدي إلى مخاطر المجموعات المسلحة التي أخذت تتحكم بحياة الناس وسلوك الأهالي.
لعبت «الصحوات» دوراً مهماً في محاصرة العنف ونجحت في عزله وتطويقه ما أدى لاحقاً إلى الحد من الانزلاق نحو الدمار الذاتي الذي ساهمت تنظيمات «مجهولة» في إطلاقه ضد أهداف عشوائية. وحين توصلت «الصحوات» إلى تشكيل فرق دفاعية وتحولت إلى ما يشبه الجيش الصغير المنظم والمجهز والقادر على المراقبة والحماية، بدأت الحكومة العراقية بغطاء من الاحتلال في محاصرتها وقطع رواتبها وسحب أسلحتها وإسقاط الرخص الممنوحة لها وإضعافها وتركها معزولة في محيط يعاني من الإهمال ما أعطى ذريعة للتنظيمات «المجهولة» في استعادة نشاطها والبدء في ترتيب هجمات قاتلة ضد رموز وقادة «الصحوات».
هذه السياسة المزدوجة ساهمت في خفض جيش «الصحوات» من 120 ألفاً إلى 40 ألفاً ودفعت بالفائض من القوات المسرحة من عملها إلى الارتداد والانزواء أو معاودة الاتصال بتلك التنظيمات «المجهولة» التي لا وظيفة لها سوى قتل الأبرياء ومطاردة الناس في بيوتهم ومدارسهم وشوارعهم ومعابدهم. وبعيداً عن السؤال البديهي عن صاحب المصلحة في تشريد «الصحوات» وتجويعها وكشفها وتعريضها للقتل من جهات «مجهولة» ودفعها نحو الاتصال بشبكات سرية تصطاد الفرص للانقضاض على أهداف وهمية، لابد من طرح علامات استفهام بشأن الجهة المستفيدة من وراء إشعال الفتنة وإثارة النعرات وتهديد الأقليات والإعلان عن أن مواقع المسيحيين في المنطقة باتت تشكل ساحة مشروعة للاستباحة وانتهاك الأعراض والحرمات.
--------------------------------------------------------------------------------
من المستفيد
التهمة ليست جاهزة وهي تشتمل على نقاط مختلفة تبدأ بدور الحكومة العراقية المدعومة أميركياً في اتخاذ تلك التدابير القانونية والمالية ضد «الصحوات» وكانت على اطلاع مسبق بشأن تداعياتها وارتداداتها، وتنتهي بعشرات التحذيرات التي صدرت عن شيوخ «الصحوات»، وأوضحت فيها احتمال عودة تنظيم «القاعدة» إلى النمو والنهوض مجدداً.
لا يمكن أن تدّعي الحكومة العراقية المدعومة أميركياً بعدم علمها بالنتائج أو بضعف إدراكها لما قد يحصل في حال واصلت سياسة التطويق لقوات «الصحوات» وإهمالها وتركها تتخبط وحدها من دون دعم وغطاء. ما حصل في الأسبوع الماضي من تفجيرات واعتداءات وانتهاكات وخروقات ومجازر ضد الأهالي في دورهم ومعابدهم كان متوقعاً ولا يمكن أن تتظاهر حكومة نوري المالكي بالبراءة وعدم المسئولية القانونية.
ما حصل في بلاد الرافدين ليس مفاجأة لأن تحذيرات شيوخ «الصحوات» جاءت متواصلة على امتداد أكثر من سنة، وكانت كلها تشير إلى مخاطر يمكن أن تترتب عنها السياسة التي قررتها حكومة المالكي. وتظاهر الحكومة المنتهية ولايتها بأنها ليست مسئولة عن تسهيل عودة تلك المنظمات «المجهولة» تحتاج إلى ذريعة مقنعة.
إذن ما مصلحة حكومة المالكي المدعومة أميركياً من تنشيط شبكات «القاعدة» أو على الأقل إعطاء منظوماتها السرية تلك الذرائع لتبرير عودتها إلى ساحة مفتوحة على الاقتتال الأهلي. هناك احتمالات كثيرة منها تقع على الجانب الأميركي الذي يرى في التفجيرات العشوائية مناسبة لتبرير بقاء الاحتلال وتطويل مهماته بذريعة حماية الأقليات والأبرياء من الإبادة العنصرية والتصفية الدينية، ومنها تقع على الجانب الحكومي الذي يتهرب من التوجه نحو بناء دولة قوية تسترد من خلال قنواتها الأهلية المتشعبة طائفياً ومذهبياً هوية العراق العربية والموحدة.
المجازر والتفجيرات والقتل العشوائي هي في النهاية سياسة مدمرة تستفيد منها جهات مختلفة صاحبة مصلحة في منع بلاد الرافدين من استرداد هويتها من جانب، وسيادتها من جانب آخر باعتبار أن العنف يعطي ذريعة قانونية للتحكم بمقاعد الحكومة وحصرها في إطار ضيق يمنع التواصل والوحدة والاستقلال. وهذا التوجه الرسمي لا يتعارض مع المشروع الأميركي الذي أسس ومهد وسهل برنامج تقويض العراق وتمزيقه إلى محاور أهلية تتنازع السلطة بناء على النزعة الطائفية والانغلاق المذهبي.
هذا الجانب السياسي في القراءة لا يسقط آلياً ذلك الجانب الايديولوجي الذي يتضمنه الخطاب التكفيري وما يعكسه من مخاطر تدمر النسيج الأهلي والإنساني لمختلف المجموعات القومية والدينية.
ردود الفعل التي صدرت عن مراجع إسلامية وهيئات مدنية تستنكر تهديدات تنظيم «القاعدة» باستباحة دماء وأعراض المسيحيين في العراق ومصر والمشرق العربي جاءت في وقت بات يتطلب وقفة عامة ترسم تلك الخطوط الفاصلة بين مواجهة سياسية ضد الهجمة على بلاد العرب والمسلمين وبين خطاب فتنة يريد إسقاط العالم العربي-الإسلامي في حروب أهلية لا نهاية لها. فالردود كانت سليمة وهي في مجموعها ليست كافية لوضع حد لمشروع الافتراء على التاريخ الإسلامي وحضارته وثقافته المتسامحة في التعامل مع الأقليات الدينية والعرقية واللونية.
المعركة تحتاج فعلاً إلى تأسيس جبهة عريضة ومشتركة تعمل أولاً على تفكيك خطاب الفتنة والدعوات المفتوحة للحروب الأهلية، وتجتهد ثانياً في توضيح الملابسات والحد من سلبيات تلك الشعارات التي تخلط المفاهيم وتجرجر المنطقة إلى التهلكة.
المعركة ليست بسيطة لأن تنظيم «القاعدة» يستفيد من الاستراتيجية الأميركية ونهجها التقويضي والمشروع الإسرائيلي ومخططه التوسعي-الاستيطاني لإطلاق شعارات تضليلية تستبيح الدماء وتبرر قتل الناس بذريعة مقاومة الولايات المتحدة وتل أبيب. وتحت هذا الغطاء المطاطي يتعمد التنظيم دفع العلاقات الأهلية نحو مزيد من التأزم باتجاه التصادم العنيف الذي يدمر المنطقة العربية - الإسلامية ويعطي فرصة للاستراتيجية الأميركية أن تواصل نجاحها في تفكيك دول العالم الإسلامي وإرهاق شعوبها بمواجهات جزئية تضعف عصبيتها وتضعها في حالات من التمزق وضياع الهوية. وما حصل في العراق في الأسبوع الماضي ليس عفوياً لأن صحوة «القاعدة» بعد هدوء وتراجع وغياب عن الساحة تؤشر إلى احتمال عودة الولايات المتحدة إلى استئناف استراتيجية التقويض بعد أن حاول باراك أوباما تجميدها خلال السنتين الماضيتين... وفشل.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2983 - السبت 06 نوفمبر 2010م الموافق 29 ذي القعدة 1431هـ