الوجه الآخر لاستراتيجية التقويض الأميركية
اللقاء الذي عقد بين الجانبين الأميركي والإيراني في بغداد أمس الأول اتفق الطرفان على وصفه بـ»الإيجابي» و «العملي» و «المتطابق في وجهات النظر». الوصف نفسه استخدمه وزير الخارجية السوري وليد المعلم حين التقى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في قمة شرم الشيخ. ماذا تعني مفردة «عملي»؟ هي تعاكس مفردة «نظري». فالنظري تعني أن البحث لايزال في بداياته وهو يتطلب الدراسة والقراءة تمهيدا لوضع رؤوس أقلام ومجموعة أفكار أولية تتضمن معلومات ومواد عشوائية تحتاج إلى هيكلة وتصنيع وتحديد آليات للتطبيق. بينما «العملي» تعني أن البحث تجاوز المراحل الأولية والبدائية وانتهى من تصوراته العامة وانتقل إلى الخطة الميدانية التي تدخل في التفصيلات. وبهذا المعنى يكون «العملي» انتهى من التأسيس والبناء وبدأ يستعد للتشطيب (اللمسات الأخيرة) والديكور وتوزيع الأثاث على سكان المبنى.
هذه المقاربة يمكن وضعها قاعدة نسبية للقياس عليها حتى نفهم المقاصد السياسية القريبة والبعيدة من ذاك الوصف الذي استخدمه المعلم بعد خروجه من اللقاء مع رايس في شرم الشيخ وتكرر استخدام الوصف نفسه بعد انتهاء اللقاء الذي دام أربع ساعات بين الجانبين الإيراني والأميركي في بغداد.
التوافق أو التطابق العملي يعني أن التفاهم النظري تم في فترات سابقة، وبناء عليه بدأت الخطة بالانتقال من التجريد العام إلى التطبيق الخاص. وهذا ما ذكره السفير الأميركي في العراق عندما أشار إلى احتمال عقد أكثر من لقاء لوضع آليات التنفيذ. والآليات حتى تكون ناجحة لابد أن تكون مرنة وواضحة في أهدافها وغاياتها، وهي في كل الحالات تحتاج إلى فاصل زمني لعملية الانتقال أو التسلم والتسليم.
حتى الآن كل ما قيل ويقال ويشاع عن تقاطعات أميركية - إيرانية وأميركية - سورية لايزال بحاجة إلى تدقيق. فالكلام العام الذي يطلق هنا وهناك يمكن وضعه في خانة «قيد الدرس». و»قيد الدرس» يعني أن الموضوع بحاجة إلى مراجعة لضبط المفردات وتوضيح المصطلحات وتدقيق الفقرات حتى تصل الأطراف إلى صوغ نهائي لهيكل المشروع.
وعلى هذا يمكن القول إن التقاطعات الأميركية - الإيرانية - السورية انتقلت من البحث النظري إلى التوافق الميداني (العملي) ولكنها لاتزال في طور «قيد الدرسِ» للمراجعة قبل إعطاء الجواب النهائي. والجواب النهائي يأخذ عادة فترة زمنية قد تمتد بين أسابيع وأشهر وأحيانا سنوات. ولكن المرجح في الحال الأميركية العويصة ألا تتجاوز المهلة فترة الأسابيع والشهور.
إذا منطقة «الشرق الأوسط» بأسرها في حال من الانتظار يرجح أن تكون بالغة الصعوبة حتى تنجز الأطراف المراجعة النهائية لتلك المطالعات (التقاطعات) لملفات ساخنة تبدأ في العراق وتمر في لبنان وربما تتجاوز غزة.
ما هي التوقعات التي يمكن رصدها من الآن لمقاربة ذاك الهيكل الذي يعاد تشكيله في «الشرق الأوسط» خلال فترة الأسابيع أو الأشهر المقبلة؟
نبدأ بالمشكلة وهي الولايات المتحدة بطبيعة الحال. فهذه الدولة الكبرى أعلنت قبل ست سنوات عن مشروع ايديولوجي ضخم يبدأ من اندونيسيا في الشرق وينتهي في المغرب وموريتانيا في الغرب. وقام هذا المشروع على مجموعة أفكار وحمل تسميات مختلفة تركزت على خطوط عريضة منها مثلا أن دول المنطقة فاشلة وهي تعاني من أزمات بنيوية ساهمت في تعطيل النمو الاقتصادي ما أدى إلى ظهور تيارات متطرفة تغذت من روافد العنف وثقافة الثأر والانتقام. وحددت إدارة جورج بوش عناصر الفشل بسببين: أولا وجود أنظمة استبدادية تسلطيه ترفض تداول السلطة وتمنع حرية الرأي مستخدمة علاقاتها الدولية (التحالف مع أميركا) للاستقواء على الناس وتجريدهم من حقوقهم السياسية والمدنية. ثانيا، اعتماد برامج تربية وتعليم تؤسس الأجيال على مفاهيم الكراهية والانتقام وعدم الاعتراف بالاختلاف وثقافة الآخر.
تصورات ايديولوجية
بناء على هذه التصورات الايديولوجية الضخمة قررت الولايات المتحدة خوض معارك سياسية ضد الأنظمة لتغييرها، ومعارك ثقافية (فكرية) ضد الإسلام والتيارات الإسلامية لتغيير السلوك الاجتماعي ومناهج التربية والتعليم تحت يافطة مطاردة خلايا «القاعدة» وتوابعها وملحقاتها وفروعها في 40 دولة كما ذكر مرارا وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد.
ساحة الحرب العالمية الكبرى «الثالثة» كانت شاسعة جغرافيا إذ ما تغرب عنها الشمس في جهة حتى تكون بدأت بالشروق في الجهة الثانية. ومدة التغيير كانت محدودة زمنيا حين اعتبر تيار «المحافظين الجدد» أن ولاية واحدة للرجل «المختار» بوش كافية وربما يحتاج إلى ولاية ثانية لاستكمال مشروع التعديل والتغيير. أما أدوات هذا المشروع فقد اختزلت إلى فرعين: الأول إطلاق بعض الشعارات والوعود والاعتذار عن السياسة الأميركية السابقة التي امتدت 60 عاما كما ذكر بوش مرة في خطاب له. والثاني البدء في حملات عسكرية ضد دول المنطقة بقصد تقويضها واجتثاثها من جذورها والبدء من جديد في إعادة اعمارها لتكون على صورة النموذج الأميركي.
هكذا بدأت الولايات المتحدة مشروع تقويض «الشرق الأوسط» متذرعة بهجمات 11 سبتمبر/ أيلول. فجاءت الحملة الأولى ضد أفغانستان في نهاية 2001، ثم الحملة الثانية ضد سلطة ياسر عرفات في الضفة والقطاع وهي لاتزال سارية المفعول منذ 2002 إلى 2007، ثم الحملة الثالثة ضد العراق في 2003 فنجحت في شطبه من الخريطة السياسية وبعثرته على سلطات محلية متهاوشة، وكانت الحملة الرابعة ضد لبنان في صيف العام 2006 فحرثته ودمرت بناه وحرقت قراه وجرفت علاقاته الأهلية ووضعتها على قاب قوسين من الاقتتال.
حتى الآن، لم تكتمل قصة الولايات المتحدة. أفغانستان لاتزال على حالها من البؤس وأخذت الفوضى الأمنية والسياسية تعصف بها. فلسطين تمر في أسوأ حال منذ حرب يونيو/ حزيران 1967 وهي تتخبط داخليا وعشوائيا منذ رحيل ياسر عرفات. العراق تحول إلى مزارع واقطاعات طائفية ومذهبية ومناطقية واقوامية وقبائلية يطلق عليها الدستور الأميركي «فيديراليات ديمقراطية». أما لبنان الذي أعلن بوش مرارا إعجابه بتجربته (واحة الحرية) فإنه لم يتردد في إعطاء الضوء الأخضر لحكومة ايهود اولمرت للبدء في تحطيمه وتمزيقه ورميه مجموعة أشلاء أخذت تتناهشها منظمات وتنظيمات مختلقه ومجهولة الاسم والمصدر.
كل هذه «الانجازات» الأميركية نجحت إدارة بوش الجمهورية في تحقيقها في ست سنوات. وحين شارفت مهمة تيار «المحافظين الجدد» على الانتهاء سارع قادة هذا التيار على الانكفاء وتقديم استقالاتهم تهربا من المحاسبة وتحمل مسئولية الكوارث التي جلبها هؤلاء لدول المنطقة وشعوبها.
الآن لم يبق في ميدان «البيت الأبيض» سوى بعض رموز ووجوه ذاك «التيار» معطوفا على توصيات أوردها تقرير «بيكر - هاملتون» في صفحاته. وحتى الآن لايزال «الرجل المختار» محتارا في سياسته، هل يواصل استراتيجية التقويض التي دفعه إليها «المحافظون الجدد» أم يأخذ بتلك التوصيات ويبدأ باعتمادها وسيله أخيرة للخروج من المنطقة؟
الجواب النهائي «قيد الدرس». والكلام عن تقاطعات مع طهران ودمشق انتقل كما يبدو من إطاره النظري إلى آلياته العملية. وفي ضوء هذه التجربة المرة هناك مجموعة توقعات هي اقرب إلى الفرضيات وتحتاج إلى وقت للتبلور في هيكل يتناسب مع الإخفاقات والعثرات والعقبات.
المشكلة إذا بدأت أميركية ويرجح أن تنتهي أميركية. وإنما كيف بالتفاهم مع إيران ولماذا وعلى أي أساس أم بالتفاهم مع سورية وكيف وعلى أي أساس؟ فهل أميركا مستعدة الآن للانسحاب «المشرف» واعتماد خطوات التسلم والتسليم أم هي لاتزال تخطط للخروج من المأزق بالهروب إلى الأمام؟
هناك الكثير من الالتباسات (الوجه الآخر لاستراتيجية التقويض) لاتزال ترخي بظلالها على منطقة «الشرق الأوسط» الكبير والصغير والقديم والجديد، ولكن الواضح في استراتيجية التقويض التي نجح تيار «المحافظين الجدد» في توريط الإدارة الجمهورية بها أنها انتهت خلال السنوات الست الماضية إلى هدم أو زعزعة أو تحطيم أفغانستان والعراق ولبنان وسلطة عرفات في فلسطين... تاركة «هرار» الإصلاح والتحديث والتطوير والتنمية والعدالة وتمكين المرأة في «خبر كان».
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1727 - الأربعاء 30 مايو 2007م الموافق 13 جمادى الأولى 1428هـ